الأثر السّلبي للفساد على التمتع بحقوق الإنسان

19/08/2025

د.اسحاق اندكيان

أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارا في غاية الأهمّية بتاريخ 30 حزيران 2025 أثناء إنعقاد الدورة التاسعة والخمسون لمجلس حقوق الإنسان يتعلّق ب "الأثر السلبي للفساد على التمتع بحقوق الإنسان"، مسلّطا الضوء على العلاقة الوثيقة بين تفشي الفساد المؤسّساتي وضعف الحَوكَمَة من جهة، وتراجع مستويات التمتع بالحقوق المدنية والإقتصادية والإجتماعية من جهة أخرى.

 

هذا القرار يُعدّ خطوة متقدمة في الإعتراف الأممي بأن الفساد ليس مجرد مشكلة مالية أو إدارية بحتة، بل هو ظاهرة ممنهجة تهدّد أسس حقوق وكرامة الإنسان والمساواة، وتُقوّض فرص التنمية المستدامة والعدالة الإجتماعية لا سيّما من خلال المادة الثانية من القرار التي تنصّ على ما يلي: "يعترف (القرار) بالأثر السلبي للفساد المستشري على التمتع بحقوق الإنسان، بما في ذلك من خلال تقليص الموارد المتاحة لجميع القطاعات، على نحو يعوق إعمال جميع حقوق الإنسان؛" كما وتنصّ المادّة السادسة من القرار ذاته على التشديد بإتخاذ التدابير الوقائيّة لمكافحة الفساد على جميع المستويات والمؤسسات؛ أما المادة السابعة من القرار فتنصّ على تهيئة وصيانة "في القانون والممارسة، عند تصدّيها للأثر السلبي للفساد على التمتع بحقوق الإنسان، بيئة آمنة ومؤاتية يمكن أن يعمل فيها المجتمع المدني والإعلاميّون والمنصات الإعلامية والصحافيون والأوساط الأكاديمية دون التعرّض للعوائق و إنعدام الأمن، ويمكنهم أن يتمتعوا فيها بحريتهم في إلتماس المعلومات وتلقّيها ونقلها".

 

 

أولًا: مضمون القرار وأبعاده الحقوقية

ينطلق القرار من فرضيّة أن الفساد يُعيق الجهود الوطنية والدولية لحماية حقوق الإنسان لا سيّما تلك المتعلّقة بأولئك اللّذين يعيشون في أوضاع هشّة وهم غالبًا ما يكونوا أوّل ضحايا الفساد، لأنه يخلق فجوات عميقة بين المواطنين - خاصةً ضمن الفئات المجتمعيّة الضعيفة - ومؤسسات الدولة، ويُفضي إلى سوء توزيع الموارد التي غالبا ما تكون محدودة بالأساس. هذا بالإضافة إلى أنّ الفساد مرتبط إرتباطا عضويّا لا بل يشكّل سببا مباشرا لإنعدام العدالة الإجتماعيّة، وتفشي التمييز على أساس العرق والطائفة والمناطقيّة والزبائنيّة السياسيّة والتهميش الإجتماعي، كما يؤكد القرار على أن الفساد يطال الحقوق الإقتصادية والإجتماعية بشكل خاص، مثل الحق في الغذاء، والتعليم، والصحة، والسكن، والعمل، ويمنع الفئات الضعيفة والمستضعفة من الوصول إلى الخدمات العامة التي من المفترض أن تؤمّنها الدولة لمواطنيها دون منّة وبكل عدالة وكرامة.

 

أمّا في الأبعاد الحقوقيّة والقانونيّة للقرار الأممي الجريء، فتتجلّى بتحميل مسؤوليّات جمّة للدول الأعضاء في تأمين مناخ ديموقراطي ومؤاتي للمجتمع المدني والإعلاميّين والمنصات الإعلامية والصحافيين والأوساط الأكاديمية لفضح إرتكابات متعلّقة بالفساد دون أن يشكّل ذلك خطرا عليهم وعلى ممتلكاتهم وأرواحهم نتيجة السطوة والقوّة التي يتمتّع بها السياسيّون والتي غالبا ما يسيئون إستخدامها بحقّ هؤلاء لكمّ أفواههم وإبتزازهم سياسيا ومعنويا لطمس الحقائق والتغطية على الفساد.

 

كما يشجّع القرار الأممي الدول ومنظّمات المجتمع المدني ورجال الصحافة والأكاديميّين على منع ومكافحة الفساد. وبالتالي، يقسم القرار مسألة كيفيّة التعاطي مع الفساد إلى قسمين: القسم الأوّل هو إحتزازي أي أخذ التدابير اللاّزمة قبل وقوع عمليّة الفساد من خلال تشجيع وتيسير ودعم الدول والمنظّمات الدوليّة ومفوضيّة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة لتقديم المساعدة التقنية المستدامة والملائمة والفعّالة في الوقت المناسب بما يتماشى مع الإستراتيجيّأت الوطنيّة لمكافحة الفساد، إن وُجدَت. أمّا القسم الثاني فيتعلّق بمرحلة ما بعد وقوع جرم الفساد أي مرحلة مكافحة الفساد من خلال الشفافيّة والمحاسبة للفاسدين ضمن القوانين المرعيّة الإجراء.

 

إضافة لما ورد أعلاه، ثمّة أكادميّون أمثال Esther Hava, Abdulkareem Azeez, Ilias Bantekas, and Martine Boersma, يعتبرون أنّ إرتكاب جريمة الفساد الدولي أو الفساد واسع النطاق، خاصة عندما يتمّ تسهيله أو إرتكابه من قِبَل مسؤولين حكوميّين، يقع ضمن الجرائم ضدّ الإنسانيّة وبالتالي تُعطى المحكمة الجنائيّة الدوليّة الإختصاص الجرمي للنظر بهكذا جرائم بسبب تأثيرها السلبي والمدمّر على فئات كبيرة من السّكان من خلال تهديد وإضعاف الحكم الرشيد وسيادة القانون والوئام والسلام والتقدم والتنمية.

 

ثمّة منظّمات دولية ومحليّة ومؤتمرات دوليّة، بما في ذلك اللّجنة الوطنية الكينية لحقوق الإنسان والمؤتمر الدولي الحادي عشر للفساد الذي عُقد في سيول-كوريا الجنوبيّة، ذهبت إلى حد إعتبار الفساد "جريمة ضد الإنسانية" إذ أفادت المنظمة العالمية للبرلمانيين ضد الفساد (GOPAC) أنّه قد يكون هناك مبرر كاف ٍ لمقاضاة الفساد الكبير (grand corruption) كجريمة ضد الإنسانية بموجب المادة 7 (1) (ك) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، إذا تمَّ تعريف الفساد الكبير بطريقة توضح أنه يقتصر على الأفعال اللاّإنسانية التي تسبب "معاناة شديدة، أو إصابة خطيرة للجسم أو للصحة العقلية أو البدنية".

 

 

ثانيا: لبنان نموذجا واضحا لتفشّي الفساد

إذا ما نظرنا إلى الحالة اللّبنانية من زاوية الفساد، يشير مؤشر مدركات الفساد (Corruption Perceptions Index - CPI) التابعة لمنظمة الشفافية الدولية، أنّ لبنان قد سجّل تراجعا كبيرا، حيث حصل على درجة 22 من 100 في العام 2024، ليحتل المرتبة 154 من بين 180 دولة وبالتالي، فإننا نجد أن الفساد في لبنان ليس مجرد خلل شكلي عابر، بل هو بنية متجذّرة في مؤسسات الدولة تكاد ترقى إلى مستوى "العنف البنيوي" (structural violence) كما عرّفها عالم الإجتماع والرياضيات النرويجي يوهان غالتونغ لأنّ الفساد في لبنان تسبَّبَ مباشرة في تآكل الحقوق الأساسية للمواطنين بما فيها على سبيل المثال لا الحصر تراجع مستوى الخدمات العامة الأساسية مثل الكهرباء، والمياه، والرعاية الصحية، والأمن الغذائي، والتعليم الرسمي، وسبل العيش الكريم نتيجة نهب المال العام، وإنعدام الرقابة الفعّالة وإحتكار النّخبة الطائفيّة-السياسية لمصادر السلطة والثّروة على حساب المواطنين وهو ما تؤكده تقارير منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش والشفافية الدولية، كما أن إنعدام الشفافية والمحاسبة لجرائم الفساد أدّى إلى تفشّي الإحباط خاصة لدى فئة الشباب المثقّف والعزوف عن المشاركة السياسية لا سيّما في الإنتخابات العامّة، ما يُضعف الحقّ في المواطنة والمشاركة السياسيّة الفعّالة، ويُغذّي النزاعات الداخلية ويدفع إلى التهجير القسري.

 

فالوزارات السيادية والخدماتية تحوّلت إلى مراكز للإثراء غير المشروع وتقاسم الغنائم السياسية والطائفية بين الوزراء المعيّنين على أساس تحاصص حزبي-طائفي من ناحية والنخبة السياسيّة لكلّ مجموعة طائفيّة من ناحية أخرى ويكفي النظر إلى أداء بعض الوزراء في حكومات سابقة لفهم حجم الخلل المزمن.

 

 

ثالثا: نحو مواجهة حقيقيّة كاملة متكاملة

ما لم يتم تفعيل دور القضاء العادل والمستقلّ والنزيه، وتأمين إستقلالية أجهزة الرقابة، وضمان الشفافيّة في إدارة الشأن العام، فإن أي إصلاح سيبقى شكليّا وفارغا من مضمونه. لبنان بحاجة ٍ إلى إطار ٍ حقوقي وقضائي ومؤسّساتي وأكاديمي وصحفي متكامل لوضع منهجيّة فعّالة لمكافحة الفساد، يربط بين العدالة الإجتماعية والحوكمة الرشيدة ويُعيد الثقة بين المواطن والدولة.

 

تعطي التشكيلات القضائيّة الأخيرة التي صدرت منذ أيّام قليلة، والتي يجزم العديد من الحقوقيّين والقانونيّين أنّها من الأنزه والأفضل منذ سنوات خلت، أملا ببدء دوران عجلة مكافحة الفساد لتغيير الحالة البائسة التي يمرّ بها لبنان ويعيشها اللبنانيّون.

 

ختاما، يشكّلُ قرار مجلس حقوق الإنسان المذكور أعلاه إطارا مرجعيا مهما للبنان، بحيث يجب أن يُفعَّل بواسطة المؤسسات القضائية، والمجتمع المدني، والإعلام الحرّ والنزيه والموضوعي لفضح ومواجهة الفساد الذي بات التحدي الأول في إستعادة الثّقة بين المواطن والدولة من ناحية وإعادة الحقوق والكرامة الإنسانية لجميع اللبنانيّين من ناحية أخرى.

Share this:
Poppins

تابعونا على مواقع التوصل الإجتماعي

  • Labora
  • Expert tourism
  • Khazzaka
  • Poppins
khazzaka insurance